طراحة زهية
الحكايةُ العجيبةُ وحياكةُ الأحزمةِ بقرى منطقة القبائل .مقاربة إثنولوجيّة
أستاذة محاضرة، جامعة مولود معمري، تيزي وزو، كليّة الآداب واللّغات، قسم اللغة العربيّة وآدابها، تخصّص أدب شعبي
لاحظنا من خلال بحوثنا الإثنوغرافيّة القديمة والحالية التي أجريناها بين سنة 2011 وسنة 2015، بقرى منطقة القبائل العليا (“آث واسيف”، و”واضية” و”عزازقة”)، ترابطَ فنّ الحكاية العجيبة، وفنّ حياكة الأحزمة، في الكثير من أحوالهما ورموزهما، واستجوبنا الراويات كثيرا، فأكّدن بأنّ فنّ رواية الحكاية العجيبة كان يمارس شتاءً أمام موقد النّار، أثناء اشتغال الفتيات والكنات بنسج الأحزمة “إِسُرا”. ولفتَ انتباهنا ذكرُ اسم هذا النوع من الأحزمة في الصيغة التمهيديّة لهذا النوع الفولكلوريّ اللفظيّ. فلا تبدأُ الجدّاتُ رواية الحكاية العجيبة قبل تلاوة هذا الدعاء: «مَاشَاهُو، طَلَّمْ شَاهُو، رَبِّي آتسْيَسّلْهُو، أَتسْيَضْپَعْ أَمْزُونْ ذَاساَرُ.» أي «سأحكي حكاية الليّل العجيبة، ربّي يجعلها جيّدة، مطبوعة مثل الحزام الطويل الجميل». فما سرُّ هذا الترابط بين الحكاية العجيبة “ثَمَاشَاهُوتسْ” المحكيّة شفويّا، والأحزمة “إِسَرَا” الممارسة فعليّا؟ أو بالأحرى ما سرّ الترابط بين فنّي الحكاية والحياكة؟ سنحاول في مقالنا هذا الإجابة عن هذا السؤال، انطلاقا من السياق الإثنوغرافي لهذين الفنين الفولكلوريّين: الفن المحكي لفظيّا شفويّا، والفنّ المنسوج والممارس فعليّا. ونتوسّع قليلا في المكان والزمان بإجراء مقاربة إثنولوجية([1])، بحثا عمّا يشبه علاقة الحكاية بالحياكة في أسطوريات ضفاف منطقة البحر الأبيض المتوسط المجاورة.
منطقة القبائل
تقع منطقة القبائل([2]) بوسط الجزء الشمالي للجزائر وإفريقيا، وجنوب البحر الأبيض المتوسّط. وتحتوي بامتياز –حسب التقسيم الإداريّ الجديد- الولايات التالية: بجاية، وتيزي وزو، وبومرداس، وبويرة. يُطلَقُ مصطلح “القبائل” في الجزائر على الأمازيغ، المقيمين بجبال ساحل المتوسّط والأراضي التي تحيط بالمتيجة وجبال جرجرة وضواحيها. قسّمَتْ منطقةُ القبائل انطلاقا من تضاريسها، فمن الدارسين من قسّمها إلى أربع مناطق أو أقاليم: المنطقة المركزيّة المحتواة لـ”جرجرة” والكتل الجبليّة المجاورة، والمنطقة الشرقيّة الممثّلة لجملة مرتفعات “أكفادو” الغابويّة ولواحقها، والمنطقة الساحليّة الممتدّة جانبيّا للمنطقة الشرقيّة ذات القمم المتناقصة الارتفاع، والمنطقة الغربيّة ذات الجبال المنحدرة تدريجيّا اتجاه التلال المنخفضة للساحل.([3]) وهناك من قسّمها إلى تسع مناطق: الساحل ومنحدرات شمال السلسلة الساحليّة من “دلس” إلى “بجاية”، وسهول سيباو العليا من المرتفعات العليا لـ “تيزي وزو” إلى “بوزﭭان”، وسهول “سيباو” بأراضيها من “دلس” إلى “تيزي وزو”، وجملة المرتفعات المركزية للقبائل الممثلة لقلب جرجرة وضواحيها، والسهول والتلال المنخفضة الغربيّة، ومنطقة السهول والتلال المنخفضة، والمنحدر الشمالي لـ “جرجرة”، والمنحدر الجنوبي لـها، وسهول وادي سهل/الصومام. ([4])
وقد جمعنا مادّة مقالنا هذا انطلاقا من تحقيقاتنا الإثنوغرافيّة التي أجريناها من سنة 2011 إلى سنة 2015 بالجزء العلوي من منطقة القبائل، وبصفة أخصّ بـقرى دائرة “الأربعاء ناث واسيف”، و”واضية” المنتميّة لجملة المرتفعات المركزيّة لمنطقة القبائل، وكذا بقرى دائرة “عزازقة” و””بوزﭭان” المنتمية لسهول سيباو العليا. وكلّها منتميّة لولاية “تيزي وزو”، لكنّها بعيدة عن التأثيرات الخارجيّة من غيرها من القرى والمناطق السهليّة المنخفضة والساحليّة التي احتكّت وتعرّضت للتأثيرات الخارجيّة.
وبعبارة أخرى أنّها قرى ومناطق مازالت محتفظة بالعادات والتقاليد والمعتقدات القديمة، لأنّها نقاط لم، يُقم بها الدخلاء والغزاة المستعمرون – وبصفة خاصّة الفرنسيون- مراكز استعمارية رسميّة مثلما هو الحال بالمناطق الساحليّة والسهليّة. كما أنّهم لم ينشئوها كما أنشأوا الكثير من القرى والمدن المستحدثة.([5])
الحكاية العجيبة وحياكة الأحزمة
مصطلح الحكاية العجيبة، استخدمناه هنا لما يسمّى “ثَمَاشَاهُوتسْ” بالقبائليّة. والحكاية الخرافية.” بالعربيّة([6])، و”Marchen” بالألمانيّة، و”Fairy-tale” بالإنجليزية، و”Conte merveilleux” بالفرنسيّة([7]). والحكاية العجيبة عند “فلاديمير بروب Vladimir Propp” –المختصّ في دراسة بنيتها – هي ذلك النوع الذي صنّف في فهرس “آنتى آرنAnti Aarne ” و”طمسون Thompson” من رقم 300 إلى 749.([8]) وصنّف في متن “أفاناسّيفA. N. Afanassiev” من رقم 50 إلى 150. هذه المائة حكاية الروسية الخرافية العجيبة، درسها “بروب” واستخلص أنّها متكوّنة في بنيتها من 31 وظيفة. وهي ذلك النّوع الّذي نجد فيه دراسة الأشكال وإقامة القوانين الّتي تسيّر البنية ممكنة، بنفس دقّة مورفولوجيا التّشكّلات العضويّة.([9])
والوظائف هي العناصر والأجزاء الأساسية الثّابتة المكوّنة للخرافة. وتأتى مرتّبة – بعد الوضعية البدئية – كالتّالي: نأيٌّ، منع، انتهاك المنع، استنطاق، إخبار، خدعة، تواطؤ، إساءة أو نقص، وساطة، بداية الفعل المعاكس، الانطلاق، وظيفة الواهب الأولى (اختبار)، ردّ فعل البطل، استلام الأداة السّحرية، تنقّل في المكان بين مملكتين بصحبة دليل، معركة، علامة، انتصار، إصلاح الإساءة أو النّقص، عودة، مطاردة، نجدة، (ثمّ تتكرّر الوظائف من الإساءة إلى التّنقل عبر المكان بصحبة دليل مجدّدا)، وصول البطل متنكّرا، دعاوى البطل المزيّف الكاذبة، مهمّة صعبة، إنجاز المهمّة الصّعبة، التّعرّف على البطل الحقيقي، اكتشاف البطل المزيّف، تغيّر هيئة البطل الحقيقي، عقاب البطل المعتدي، زواج البطل.([10])
ومصطلح “ثَمَاشَاهُوتسْ“([11]) بالقبائلية/الأمازيغية هو المصطلح الدقيق المستخدم لهذا النوع من الحكايات، رغم أنّه يوجد من الرواة من يستخدم مصطلحات ذات أصل عربيّ مثل “ثَقْصِيطْ (مشتق من مصطلح قصّة) أو ثَحْكَايْثْ ( مشتق من مصطلح حكاية).
إنّ مصطلح “ثَحْكَايْثْ” في اللّغة القبائليّة/الأمازيغيّة، يتّفقُ مع مصطلح “حكاية” في العربيّة، مع زيادة حرف “ثاء” التأنيث في بداية ونهاية الكلمة. وإذا جئنا إلى معجم “لسان العرب” نجد كلمة “الحكاية” في العربية من الفعل “حكي”: الحكاية: كقولك حَكَيْتُ فلانا وحاكَيْتُهُ فعلتُ مثل فِعله أو قلتُ مثل قوله. ويقال حكاه وحاكاه بمعنى المحاكاة أي المشابهة. وحكيتُ عنه الكلام حكاية وحَكَوت لغة. وأحْكًيْتُ العقدة أي شدَدتها كأحكأتها([12]).
ومصطلح “الحكاية” في العربيّة و”ثحكايث” في القبائليّة/الأمازيغيّة يتشابه مع مصطلح الحياكة (أي “النسج”) في العربيّة. ويقابل مصطلح “النسج” (أي الحياكة) في العربية، مصطلح “”أزَطَّ” في القبائليّة/الأمازيغيّة، وهو من الفعل “زَطّْ” الذي يعني نَسَجَ. ويقال في بعض نقاط بلاد القبائل -بقرى ولاية بومرداس- “”أحايك” أي الحايك للغطاء من الصوف. ونجد في لسان العرب مصطلح الحياكة من الفعل “حيك”: حاكَ الثوب يحيكُ حيكا وحَيَكاً وحياكةً: نسجه، والحياكة حرفته. الحائك يحوكُ الثوبَ، والحَيْكُ: النسج. والحَيْكُ: أخذ القول في القلب. ويقال: ما يحِيكُ فيه المَلامُ إذا لم يؤثّر فيه.([13]) ونستنتج من هذا أنّ النسجَ يعني الحيّكَ، وبالتالي نلمس الترابط والتداخل بين المصطلحين، وكأنّ نسج الصوف ونسج القول أو الكلام عملة لوجهين توأمين حقّا.
وحاك الثوبَ حوْكا وحياكًا وحياكَةً نسجه، فهو حائكٌ من حَاكَةٍ وحوَكَةٍ، ونسوةٌ حوائكُ. وحاَكَ الشيء في صدري: رَسَخَ.([14]) فمصطلح حكاية يرتبط كثيرا بمصطلح حياكة سواء كان ذلك في العربية أو الأمازيغية. وللحكاية علاقة أخرى بالحياكة فيما يسمى بالحَبْكِ: الشدّ والإحكام وتحسين أثَرِ الصَّنعة في الثوب. ويقال حَاَبَكَ الثوبَ بمعنى أجاد نسجه. والحُبْكَةُ بالضّمِ: الحُجْزَةُ، وتَحَبَّكَ: شدّها، أو تلبَّبَ بثيابه، وتحبَّكَتْ المرأةُ بنطاقها: تَنَطَّقَتْ، أي الحبل يشَدُّ به على الوَسَطِ.([15])
ويُقال حكوتُ الحديثَ أَحكُوهُ: حكيتُهُ أحكيه. وحكيتُ فلانا، وحاكيتهُ: شابهته، وفعلتُ فِعلَهُ أو قولهُ. وحكُيْتُ حاكيت عنه الكلام حكايةً : نقلته، وحكيت حاكيت العُقْدَةَ : شَدَدْتُها، كأحكيتها. وامرأةٌ حكيٌّ، نمّامةٌ([16]). ويُلفتُ انتباهنا ممّا سبق ذكره، ارتباط الحكاية بشدّ العقدة الحبل (أو النطاق) على الوسط. والنطاق أو الحبل يعني الحزام، فقولنا تحبّكت المرأة أو تنطّقت المرأة يعني تحزّمت أو شدّت بالحزام على وسطها. وفكرة ارتباط الحكاية بنسج الأحزمة وبذكرها، هي عادة وقاعدة راسبة في الثقافة النسائيّة القبائلية/الأمازيغيّة، إذ لا تشرع قرويات وراويات الحكايا بمنطقة القبائل في سرد أحداث الحكاية الخرافيّة العجيبة إلا إذا ذكرن الحزام “أسرو” في الصيغة التمهيديّة، ودعون أن تكون أحداث الحكاية محبوكة ومنسوجة بالطريقة ذاتها التي تُنسَجُ بها الأحزمة النسائية.
وسنخصّص مقالنا هذا للحديث عن علاقة الحكاية بالحياكة، وبصفة خاصّة العلاقة بين الحكاية الخرافيّة العجيبة التي ترويها المرأة العجوز، وهذا النوع من الأحزمة النسائيّة التقليديّة الذي تنسجه المرأة ويسمى “أَسَرُو” أو “ثِسْفِفِينْ”،([17]) وهو مختلف تماما عن الحزام العادي الذي يسمى “أڤُّوس”، لأنّ هذا الأخير لا يميّز فيه حزام المرأة عن حزام الرجل أو غير ذلك.
الحكاية العجيبة وحياكة الأحزمة محليّا وعالميّا؟
إذا جئنا إلى سياق الحكاية والحياكة التقليدي بجبال منطقة القبائل، نجد الحكاية تروى في البيوت التقليدية أمام موقد النّار، حيث يجلس الأطفال في حلقة حول الجدّة أو عجوز من الأقارب أو الجيران، ليتلقوا سرد حكايات الملوك والغيلان في ليالي الشتاء الطوال. وإلى جانب الموقد وحلقة رواية الحكاية، تنشغل الكنات والأمهات والفتيات الشابات بالحياكة فينسجن البرانيس والأغطية والأحزمة التقليدية. وقد ذكرت الكثير من الراويات العجائز أنّهنّ استمعن إلى الحكايات العجيبة التي يتذكّرنها الآن في فترة الطفولة والمراهقة، حيث كنّ ينسجن الأحزمة المسماة “إِسُرَا” أو “ثِسْفِيفِينْ” بجانب موقد النّار. وقد أخبرتنا بعض الناسجات لهذه الأحزمة بأنّ ما يُسمّى “ثِسفِيفِينْ” هو حزام عريض وطويل متكوّن من مجموعة كبيرة من الخيوط والأحزمة الرقيقة. ([18]) ويختلف هذا النوع من الأحزمة عن الأخرى التي لا يتجاوز طولها مترين أو مترين ونصف.([19])
ولاحظنا من خلال بحوثنا الإثنوغرافيّة التي بدأناها في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وإلى يومنا هذا، استحالة دخول النساء العجائز إلى عالم الحكاية الخرافيّة دون ذكر صيغ استهلاليّة من الأدعيّة الخارجة عن نصّ الحكاية لكنّها ملازمة لها. وتذكر المرأة العجوز فيها، هذا الحزام الخاصّ الذي تنسجه الكنات إلى جانب الحماة أو الجدّة المسنّة التي تروي الحكايات. فتقول الجدّة: “أَمَاشَاهُو، رَبِّي أَتسْ يَسَّلْهُو، أَتسِغْزِيفْ أَمْزُونْ ذَا سَرُو.” أي “سأحكي حكاية الليل العجيبة، ربّي يجعلها جيّدة، وطويلة مثل الحزام المتقن الصنع.” ويُقال أيضا في صيّغ بدايات الحكاية العجيبة: “ماشاهو طلم شاهو، ربّي أتس يزيغزف أم سرو، أشانن أذروحن لخلا لخلا، نكني أنروح أبريذ أبريذ”، إي “ربي اجعل حكايتي طويلة كالحزام، بنات آوى عبر الغابات، ونحن عبر الطرقات”. ونجد أيضا أشكالا أخرى يُذكر فيها دوما هذا النوع من الأحزمة “أسرو”، نقدّم بعضها مختصرا مترجما إلى العربيّة:
-“أَمَا شَاهُو، سَتُطْبَعُ حزاما طويلا طويلا”.
– “ما شاهو، طلّم شاهو، حكايتي العجيبة تصنع حزاما طويلا طويلا، وتكبر بقدر رافدة سقف البيت الوسطى، من قال منكم: آهو، كانت أيامه سعيدة. يردّ المستمعون بصوت واحد: آهو”.
– “ماشاهو، ستصنع حزاما طويلا، وتكبر مثل ركيزة البيت الوسطى”.
– “بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم. أماَشاّهُو، ستكون إن شاء الله جيّدة مطبوعة مثل الحزام الطويل. من كان فاهما حفظها ليصير راويها. فلتُروَ من جيل إلى جيل ابتداءً من مصدرها الأوّل”.
– “ماشاهو، طلم شاهو، إن شاء ربّي يجيدها، ستطول مثل الحزام، وستكون حلوة مثل الكسكسى”.
وإذا تساءلنا عن سبب ذكر الحزام “أسرو”، قبل بداية سرد أحداث الحكاية، فإجابتنا تكون بردّ ذلك إلى تميّز الحكاية العجيبة بشكلها الطويل، إذ تستغرق روايتها الشفوية بين نصف ساعة إلى ساعة وأكثر. ويمتاز “أسرو” بطوله الذي يتراوح بين 5 أمتار ونصف إلى تسعة أمتار([20]). وكلاهما يمتاز بالتعقيد والتشابك، فالحكاية تبدأ بوضعية عادية متمثّلة في تقديم أسرة في ظروف لا بأس بها، ثم تتشابك أحداثها بافتراق شخصياتها بعد حدوث نقص أو إساءة، وتنتهي بإلغاء الإساءة ليحل التلاقي بعد الجفاء. كذلك في مثل هذا النوع من الأحزمة “إسُرَ”، فخيوطه تبدأ مجموعة متكتّلة وتفترق وتجتمع إلى أن تلتقي مجتمعة([21]) مثلما كان الأمر في البداية ولكنّ النهاية تقدّم عملا كاملا محكما جميلا.
ولا يمكننا فهم أشكال صيغ المقدمات الاستهلاليّة للحكاية الشعبيّة، إلاّ إذا استمعنا إلى الحكاية كاملة وتمتعنا بنهايتها السعيدة، وتأملنا أشكال الصيغ النهائية الخارج نصيّة، هذه التي نورد بعضها مترجما إلى العربيّة فيما يلي:
– “انقطعت حكايتي العجيبة، ولا تنقطع رحمة ربّي”.
– “انقطعت حكايتي العجيبة، ولا ينقطع القمح والشّعير”.
– “حكايتي العجيبة من واد لواد، رويتها لأبناء الأسياد، بنات آوى يخدعهن الله، ونحن يعفو عنّا الله”.
– ” حكايتي العجيبة من عتبة لعتبة، ينمو عرجون تمر، نأكله نحن الحاضرين”.
– “حكايتي العجيبة من عتبة لعتبة، تأتينا بعرجون تمر. يقول المستمعون: عفا عنك الله. تردّ الراوية: عفا عنّا وعن آبائكم”.
– “حكايتي العجيبة من واد لواد، رويتها لأبناء الأسياد، بنات آوى عبر الغابات، ونحن عبر الطرقات. المستمعون: عفا عنك الله. الراوية: أجمعين”.
– ” انتهت الحكاية العجيبة، وأطلب من الله أن لا ينتهي القمح والشعير”.
– “حكايتي العجيبة رويتها للوصيف، الذكيّ يفهمها ويغربلها، أمّا غيره فيجعلها جانبا. المستمعون: عفا عنك الله. الراوية: أجمعين”.
– “حكايتي العجيبة من وادٍ لوادٍ، علّمتها لأبناء الأسياد. المستمعون: جعلك الله بصحّة جيّدة. الراوية: أجمعين. إذا أصبتُ فالحمد لله، وإذا أخطأت فالعفو جميل”.
– “حكايتي العجيبة من واد لواد، رويتها لأبناء الأسياد. زوجة الأخ يلعنها الله، ونحن يعفو عنا الله”.
– ” حكايتي العجيبة عبر الغابات، ونحن عبر الطرقات”.
– “هذه الحكاية العجيبة يحرقها الله، ونحن يعفو عنّا الله”.
– “يوم العيد نأكل اللحم وكسكسيّ الشعير”.([22])
– “حكايتي العجيبة من واد لواد، أنشدتها لأبناء الأسياد، نحن يعفو عنّا الله، وابن آوى يلعنه الله، ضربنا بالفطائر أكلناها، وضربناه بالحجر كسّرناه.”
نلاحظ بأن كلّ من المقدمة والخاتمة، تتضمنان أدعيّة إلى الله بأن تروى الحكاية بجودة وإتقان، وبأن تجلب الخير للراوي والمستمعين والشّر لبنات آوى، وهذا ما يعطيها طابع الشكل الأدبيّ المقدّس. ففي المقدمة يتكرر ذكر الحزام الطويل “أسرو” أو ما يشبهه في الاستطالة والطول والقوّة كركيزة أو رافدة البيت، وفي الخاتمة يذكر الوادي والطريق اللذان يدلان على الطول والجريان، كما يذكر القمح والشعير والتمر كرموز للخصب والتكاثر والثراء. وكذلك يدلّ الحزام على الخصب، إذ يوضع على بطن الزوج الميت – في بعض قرى منطقة القبائل/واڤنون على سبيل المثال – حزام زوجته للدلالة على حملها منه. وتشترك الحكاية والحياكة في التزامهما بطقوس وتابوهات خاصّة قبل الشروع في بدايتها، وكذا بعد نهايتها، فلا تروى الحكاية ([23]) ولا يمارس النسج في أيّ وقت أو فصل كان.
وإذا تساءلنا عن ملازمة الحياكة (النسج) للحكاية في فصل الشتاء، فالإجابة في نظرنا ترتبط بكون مؤن الغذاء من الحبوب الجافّة قد نفذت أو كادت أن تنفذ في هذا الفصل الصعب من السنة، فتروى الحكايات منتهية بأدعية يُطلب فيها الغذاء، وبصفة أخصّ القمح والشعير. ولهذا السبب تشترك الحياكة والحكاية في تكرار ذكر رموز الخصب التي يشترك فيها عالم البشر والحيوان والنبات، ومن أمثلة هذه الرموز نجد رمز العصا والثعبان والحمام والتفاح. ولتوضيح ذلك سنتوقّف عند ذكر أمثلة عن رمز الحمام في كلّ من الحياكة والحكاية العجيبة. نجد في الحياكة الحمام منسوجا على الحزام “أسرو”([24]) في أشكال كثيرة، منها ما يسمى بالحمامات الحمراوات ([25])، ومنها ما يسمى بالحمامات الصفروات([26]).
وترد الحمامة في الحكاية كرمز للمرأة، ومن الحكايات التي تذكر فيها المرأة المتحولة إلى حمامة حكاية “زلقما”. قبل أن تبدأ الراوية حكايتها ذكرت الصيغة الاستهلالية المذكورة سابقا: “مَاشَاهُو، الله يجعلها مسليّة ومتقنة مثل الحزام الطويل المتقن الصنعة”. وخلاصة الحكاية سلطان كان له ولدان، بنت ذات شعر أشقر طويل إلى حدّ قدميها اسمها زلڤما، وابن في سنّ الزواج، أكبر من “زلقما”. لم يجد بعد فتاة تعجبه ليقترن بها. ذهب يوما إلى الينبوع ليشرب بغلته فكانت هذه تتراجع إلى الوراء، كلّما اقتربت من العين لتشرب. نظر الشاب إلى العين، ورأى خصلة شعر ذهبيّة طويلة منبسطة على سطح الماء، فأخذها ولفّها، ووضعها داخل جيبه. عاهد الله بأن يتزوّج صاحبة تلك الخصلة من الشعر، حتّى ولو كانت أخته “زلڤما”.
أمر السلطان الناس بالبحث عن صاحبة الخصلة من الشعر، فشرعوا في البحث عنها. أتوا بكلّ فتيات القرية، ولم يعثروا على صاحبة الحظ. طلب الشاب من أمّه أن تنظر فيما إذا كانت خصلة الشعر لأخته، فكان الأمر كذلك، فقرّر الزواج منها رغم كونها أخته. فأخذوا يحضّرون حفل زواج الابن دون مصارحة البنت. وبينما كانت تشارك في التحضير لعرس أخيها أخبرتها الدجاجة والغراب بأنّها هي التي ستكون زوجة لأخيها. قصدت “زلقما” أمّها باكية سائلة إياها عمن تكون زوجة أخيها، فأخبرتها بأنها فتاة من القرية المجاورة. سألت الفتاة عجوزا مدبّرة عن سرّ خبر الطيور فأكدت لها بصحته، وبأنّ أخاها سيتزوّجها هي. ولإنقاذ الفتاة من زواج المحارم، قدّمت لها العجوز المدبّرة إبرة ونصحتها بأن توخزها في رأسها لتتحوّل إلى حمامة وتطير منطلقة. وفي يوم العرس عملت “زلقما” بالنصيحة، فتحوّلت إلى حمامة فطارت بعيدا عن البيت.
بحثوا عنها ولم يعثروا عليها، فأخبر بعض الناس أخاها بأنهم رأوا حمامة خرجت من البيت وطارت مسرعة في الفضاء. تأكّد من أنّ أخته هي التي تحوّلت إلى حمامة وهربت فانطلق مع النّاس باحثين عنها في كلّ مكان. وجدوها على نخلة شامخة فشرعوا في قطعها، لكنهم لم يفلحوا في الأمر، لأنّ النخلة كانت ترجع إلى حالها الأولى كلّما تعبوا وانصرفوا للراحة. جنّد السلطان عددا كبيرا من الناس لإسقاط النخلة فطارت “زلقما” الحمامة إلى إحدى الجبال، فأمر أخوها الناس بالبحث عنها وجدوها هناك وأخبروه بذلك. قصد المكان وقبض عليها وأثناء طيرانها أصيب جناحها، فدعت عليه، فسقط طريح الفراش ملازمًا ركن البيت، بينما بقيت هي تطير في تلك الغابة، في هيئة حمامة، لم ترجع إلى أصلها. وفي أحد الأيام مرّ حطاب أرمل بالغابة، ورأى تلك الحمامة المكسورة الجناح تمشي ببطء، اتبعها لأنّه تذكّر ابنته التي طلبت منه طائرًا. قبض الحطاب على الحمامة وقدّمها لابنته.
أخذت البنت تلعب بالحمامة، وتمرر يدها على رأسها، ولمست إبرة فانتزعتها من رأسها، وفجأة وقفت أمامها امرأة شابة جميلة، فاندهشت البنت وأخذت تصرخ. وصل الأب وسأل الفتاة الشابة من تكون، فحكت له حكايتها العجيبة، ولما كان هو أرملا تزوّجها. عاشوا في سعادة وحبور، إلى أن تذكّرت “زلقما” -بعد سبع سنوات-أخاها المريض. ذهبت إلى قرية أهلها متنكرة في هيئة متسوّلة، وانتزعت من ركبة أخيها الشوكة التي أصابته بسبب دعائها عليه، ورجعت في سرعة البرق إلى بيت زوجها. وقف هو فجأة وتبعها مناديا “زَلْڤْمَاَ! إنّها زلڤما! إنّها زلڤما! إنّها زلڤما! ولم يلحق بها. رجع إلى قريته، وتزوّج، وعاش الجميع في سعادة وهناء.([27]) تقول الراوية في نهاية الحكاية : “انتهـت الحكــايـة.. حكاية تجري من وادٍ لوادٍ، حكيتها لأبناء الأسياد، بنـات آوى يخدعهن الله، ونحن يعفـو عنّـا الله.”([28])
وإذا تأمّلنا معتقدات منطقة القبائل –وشمال إفريقيا والبحر الأبيض المتوسّط ونقاط أخرى من العالم- نجد الحمام رمزا لروح الأولياء، الذين يبعثون ويرجعون غالبا في هيئة حمام. ونجد في حكايات أخرى كحكاية “هارون الرشيد”، البطل الابن الذي يذهب إلى ما وراء سبعة بحار ليجلب لأبيه الملك المريض ما يسمى بـ”التفاح المذكور الذي يبعث الشباب في الشيوخ. يذهب بمساعدة الشيخ المجرب ويرجع بتفاحات الشباب، التي يأكلها الملك فيشفى ويقوى. فرمزيّة الحمام إذن لا تختلف عن رمزية التفاح المتمثلة في الانبعاث والتجدّد. وهذه الفكرة تتّضح أكثر إذا عرفنا بأنّ التّفاح يرمز أيضا للشمس هذه التي ترمز للزمن والعودة الأبديّة والخلود، حيث تغيب كلّ مساء وتشرق كلّ صباح. يوضّح هذه الفكرة هذا اللغز الشعبي الذي تردّده كثيرا الراويات والناسجات: “التفاح المذكور العابر لسبع بحار. ما هو؟ ما هو؟ والحلّ: إنّه الشمس، إنّه الشمس. فالتفاح هو الشمس، والشمس هي الخلود. الخلود والتجدّد والانبعاث، مواضيع ترد بطرق مختلفة في التراث الشعبيّ الماديّ واللامادي على حدّ سواء. ومن رموز الشمس (الخلود) المصنوعة على الأحزمة أثناء رواية الحكاية ما يُسمّى بالشّرابات التي نلاحظ ثلاث منها في بداية الحزام وثلاث أخر في نهايته([29])، وتسمى “التفاحات”. إنّها رمز للبداية والنهاية معا، وللميلاد وللموت، أو لنقُل للحياة المنبعثة من الموت، هذا ما يلاحظه الإنسان الشعبيّ في النبات وفي الإنسان والشمس والقمر، الخ.
ترتبط الحكاية بالحياكة إذ ينسج “أسرو ” الحزام الخاص أثناء رواية هذا النوع من الحكايات. والملاحَظُ أيضا أن رموز النسج عامّة والأحزمة خاصّة”أسرو” كرمز “الثعبان” و”الحمام” و”الغرف” ترد في مرسال الحكاية العجيبة بوسيلة لغوية رمزية وترد في هذا النوع من الأحزمة النسائيّة في شكل خيوط ملونة مفتولة بإحكام. وهكذا يشترك الفنّ القولي لسرد الحكاية العجيبة، والفنّ الفعليّ لنسج الأحزمة النسائية في حفظ الرموز الدينيّة الغابرة. وما الحكاية والحياكة إلا خزائن ميثولوجيا الأولين التي تأبى الموت.
وإذا تصفحنا كتاب مسخ الكائنات لـ”أوفيد” نجد في الكتاب السّادس أسطورة “باللاس وأراخني” موضحة هذه الفكرة بتفاصيلها. فكما هو معروف أنّ أراخني فائقة المهارة في تطريز النسجيات. وقد قرّرت “منيرفا” التصدّي لمن ينافسها في النسج، وتذكّرتْ ما ستُنزله من عقاب بالفتاة الليدية “أراخني” التي كانت تدّعي أنّها لا تقلّ مهارة في الغَزل عنها وكانت لأراخني مهارة في حرفتها أكسبتها شهرة واسعة، إذ بلغ الأمر بحوريات الغاب وحوريات الماء أن يتركن مثواهنّ ليشهدن مهارتها الفائقة في إعداد خيوط الغزل وفتلها وتخليصها من العهن المنفوش. وقد أخذت حرفتها عن الإلهة باللاس وإن أنكرت ذلك. وكانت أراخني تتحدّى باللاس بقولها: “فلْتأت باللاس ولْتُباريني، فإن هي فازتْ عليّ كان لها أن تفعل بي ما تشاء”. تنكّرتْ “باللاس” في صورة امرأة عجوز وحذّرتها من أن تقرِنَ نفسها وتعتقد أنّها أكثر مهارة في غزل الصوف، من الإلهة، وأمرتها بأن تتوسّل إلى الإلهة لتغفر لها. طرحتْ أراخني النسجيّة وطلبت منها أن تأتيها بباللاس، فصاحت الإلهة بعد أن خلعت عن نفسها صورة المرأة العجوز: “هاهي الإلهة قد أتت”. ركعتْ النساء إجلالا للإلهة إلاّ أراخني. بدأ التحدّي، فأخذتْ كل منهما -باللاس وأراخني- موقعها في أحد أركان الغرفة، وبسطت كلّ منهما السُّدى في النول. رسمتْ “باللاس في نسجيّتها صخرة مارس تعلو قلعة كيكروبس بأثينا والمباراة التي جرتْ قديما لإطلاق اسم أثينة أو نبتون على هذه المدينة. وأجلستْ الآلهة الإثنيْ عشر في جلال وشموخ فوق عروشهم العالية يتوسّطهم جوبيتر تحفُّه مهابة الملوك. وأظهرتْ ربّ البحار نبتون واقفا وقد شقّ جلاميد الصخر بحربته الطويلة ثلاثيّة الشُّعَب، فانبثق الجواد الوحشيّ من بين الصخر آية استحقاقه إطلاق اسمه على المدينة. كذلك صوّرتْ باللاس نفسها في النسجيّة مُمسكة بترسها، حاملة رمحها الحاد السِّن، معتمرةً بخوذتها، وقد ادّرعت بزردها فوق صدرها، ثمّ ثبَّتت شجرة زيتون شاحبة الأوراق حيث ضربت الأرض برمحها أمام الآلهة المأخوذين بتلك المعجزة وهم يحملقون معجبين، كما صوّرت “ربّة النّصر” مكلّلة بها نسجيّتها. وأضافتْ إلى النّسجية صورة مباريات أربع أخرى، جعلت كلّ واحدة منها في ركن من أركان النسجيّة…
أمّا أراخني فقد صوّرت في نسجيّتها أوروبا حين خدعها جوبيتر متخفّيا في هيئة ثور، ونفخت الحياة نابضة في الثور والأمواج حتى ليحسبها حقيقة… وأخيرا طرّزت أراخني حوافي النسجيّة بزهور متواشجة مع أغصان لبلاب رخوٍ. وإذ لم تستطع باللاس ولا ربّة الحسد أن تكشفا عن عيب في نسجيّة أراخني تملّك الإلهة العذراء غضب عارم لتفوّق غريمتها، فمزّقت النسجيّة التي تسجّل نزوات الأرباب الآثمة، ثمّ أمسكت بالوشجيّة المصنوعة من خشب أشجار جبل كيتوروس وهَوَتْ بها مرات ثلاثا على جبهة أراخني ابنة إيدمون وأتبعتها بضربة رابعة. وضاق صدر أراخني بهذا الإذلال المُهين فلفّت حول عنقها حبلا شنقت به نفسها. رأتها باللاس معلقة فأشفقت عليها فدعت عليها بأن تدوم حيّة معلّقة في الهواء إلى الأبد…وها هي ذي تصل نسيجها كما كانت تفعل من قبل، إذ هي تصبح عنكبوتا.([30])
نستنتج ممّا سبق غنى الحياكة وفن النسج بالرمز الديني الغابر، والنص السابق يؤكّد ذلك، فهو نصّ أسطوريّ – والأسطورة تندرج فيما يسمى بعلم تاريخ الأديان – وبداخله حديث عن فنّ النسج المعبّر عن الفكر الديني الإغريقيّ اللاتيني القديم بما يعبّر عنه من صراع بين الآلهة من جهة، وبينها وبين البشر من جهة أخرى. فالنّص والنّسج ثريّان بأسماء الآلهة الإغريقية اللاتينية: باللاس، مارس وجوبيتر، الخ. وكذلك نصّ حكايتنا السابقة “حكاية زلقما” الحافلة برواسب المعتقدات الدينيّة الغابرة كالإحيائيّة وعقيدة عبادة الأولياء التي يجسّدها رمز الحمام المرتبط كثيرا بعالم الأموات الأحياء([31]). فكثيرا ما نستمع عن أخبار الأولياء الصالحين الذين يتحولون إلى طيور، فالشيخ محند أولحسين يتحوّل إلى باز وحمام، ولالة خديجة تتحول إلى حمامة كلّ وقت صلاة لتطير وتصلي ببيت الله بمكة وترجع فتسترجع هيئتها الإنسيّة. ولهذا نجد على النسجيات أيضا، وعلى الحزام رموز الحمام كثيرة.
وسنتوقّف هنا للحديث عن الحزام الذي تنسجه النساء ويشدن به على وسطهن. فهو مرتبط بهنّ كثيرا وبسلطتهنّ وقوّتهنّ الجسديّة والسحريّة، وحزام الأمازونيات وملكتهن هيبوليتا دليل على ذلك. فقد رُوِيتْ عن هرقل مآثر كثيرة وتهمنا هنا المأثرة التاسعة التي رجع من خلالها بحزام الملكة الأمازونية “هيبوليتا”. ذهب هرقل في مهمة إلى بلاد الأمازونيات ليعود بحزام الملكة “هيبوليتا” الذي قدمه إليها إله الحرب “آريس” فكان رمزا لسلطانها. وقد رغبت “أدميتا” ابنة “يوريثيوس” وكاهنة الإلهة “هيرا” أن تحصل على ذلك الحزام، فوجّه “يوريثيوس” هرقل بطلبه. ذهب “هرقل” مع أبطال اليونان الصناديد، ركبوا البحر متجهين إلى شواطئ “بونت الايفكسيني” حيث بلاد الأمازون وعاصمتها “ثيميسكيرا”. وما أن وصلت سفينته إلى “ثيميسكيرا” حتى هرعت الأمازونيات وملكتهن، اشتدت المعركة بين الجماعتين ومات من الفريقين… ووقعت “ميلانيبا” قائدة كتيبة الأمازونيات أسيرة في قبضة “هرقل” ثمّ تلتها “أنتيوبا”. واندحر جيش المحاربات الباسلات واستسلمن للفرار ورضيت “هيبوليتا” أخيرا بالصلح فافتدت بحزامها “ميلانيبا”، قائدة عسكرها، أما “أنتيوبا” فحملها المحاربون معهم وقدمها “هرقل” هدية إلى “تيسيوس” جزاء شجاعته وإقدامه. وهكذا أنجز “هرقل” مهمته وحاز على حزام الملكة الأمازونية.([32])
يُستقْبَحُ عمل الحياكة كما يستقبح عمل الحكاية إذا قام به الرجال عندنا وفي مناطق أخرى من المتوسط والعالم. وممّا يروى عن “هرقل” أيضا، أنّه بيع رقيقا للملكة “أومفالا” تكفيرا عن خطيئة قتل “ايفيتوس”. كانت الملكة متغطرسة معه محتقرة إياه فألبسته ملابس النساء وأجبرته على القيام بأعمال الغزل والنسيج إلى جانب جواريها. فكان على “هرقل” البطل العظيم القاهر الذي يرعب أعداؤه ذكر اسمه، أن يجلس منحني الظهر إلى نول الحياكة وأن يغزل الصوف بيديه اللتين ما عرفتا غير امتشاق السيف القاطع وشدّ أوتار القوس الشديد وجندلة الأعداء بالهراوة المبززة.([33])
ونخلص إلى القول بأنّ ما ترويه النساء في الحكايات العجيبة وما ينسجنه من رموز على النسجيات والأحزمة هو مرسال عقيدة النساء ودينهن الطبيعيّ. فالحكاية والحياكة من الأساطير وبقايا الميثولوجيا القديمة، فإذا مارسناها ورويناها وعرفناها «عرفنا أصل الأشياء، وبعد ذلك سنتمكن من التحكم فيها واستعمالها بصلابة على المراد، وهذا لا يعني معرفة خارجية، لكن معرفة نعيشها طقسيا، سواء كان ذلك عن طريق رواية للأسطورة أو عن طريق إقامة الطقس الذي يخدم واقعة… فمعايشة الأساطير تستتبع إذن تجربة دينيّة حقّا، لأنّها تتميّز عن التجربة العادية للحياة اليوميّة. فالصبغة الدينية لهذه التجربة ترجع إلى فعل كوننا نحيّن أحداثا أسطورية، معظّمة، وذات دلالة، فإنّنا نحضر من جديد أعمال الخلق للكائنات ما فوق الطبيعة.»([34]) فالراوية والناسجة تردّدان تعاويذ الخصب وردّ الشرّ والأذى عبر سرد حكايتها، ونسج حزامها الذي لا يفارقها.
Bibliographie
BAUMARD P., 2002, « Les paradoxes de la connaissance organisationnelle », in Josserand
[1] أخذنا مفهوم المقاربة الإثنوغرافية والإثنولوجيّة، من عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي “كلود ليفي ستروس”
فالمقاربة والدراسة الإثنوغرافية هي كلّ ما يتجاوب مع المراحل الأولى من البحث، أي المعاينة والوصف والعمل الميداني، الذي يرتبط بمجموعة محصورة النّطاق بما يكفي لجعل الباحث قادرا على تجميع القسم الأعظم من معلوماته بناء على خبرته الشخصيّة. أمّا المقاربة أو الدراسة الإثنولوجيّة، فهي لا تتأسّس فقط على المعرفة المباشرة بل يقوم فيها الباحث بعمليّة الجمع والتوليف وفقا للاتّجاه الجغرافيّ، إذا كان يهدف الجمع بين معارف متعلّقة بالجماعات المتجاورة، أو وفقا للاتجاه التاريخيّ إذا كان قاصدا كتابة التاريخ بالنسبة لأقوام معيّنين أو عدّة أقوام.
ينظر: كلود ليفي ستروس: الإناسة البنيانيّة، ترجمة: حسن قبيسي، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ط1، 1995، ص375، 376.
[2] – كتب الفرنسيون كثيرا عن المنطقة من الناحية الجغرافيّة والاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة والدينية، ولمعرفة تفاصيل ذلك، ينظر:
- Hanoteau, A. Letourneau: La Kabylie et les coutumes kabyles,T1, librairie Algérienne et coloniale, Paris,1893, P5,6.
- Hanoteau, A. Letourneau, La Kabylie et les coutumes kabyles, T. 1, Paris, Librairie algérienne et coloniale, 1893.
René Maunier, Mélanges de sociologie nord-africaine, Paris, Ed. Librairie Félix Alcan, 1930, p. 94-95.
Pierre Bourdieu, Esquisse d’une théorie de la pratique. Précédé de trois études d’ethnologie kabyle, Genève, Ed. Librairie DROZ, 1972, p. 36-38.
[3] G. Hanoteau, A. Letourneau, La Kabylie et les coutumes kabyles, T. 1, Paris, Librairie algérienne et coloniale, 1893, p. 5-6.
[4] Alain Mahé: Histoire de la Grande Kabylie, XIX-XXe siècles. Anthropologie historique du lien social dans les communautés villageoises, Éditions Bouchène, 2001, p.573-595.
[5] ينظر بتفاصيل أكثر، المرجع نفسه ص 577، 586.
[6] ينظر: نبيلة إبراهيم: أشكال التّعبير في الأدب الشّعبيّ، دار النّهضة، القاهرة، مصر، بدون تاريخ.
[7] ينظر بنوع من التفصيل:
Vladimir Propp, Morphologie du conte, suivi de Les transformations des contes merveilleux, Paris, Éditions du Seuil, 1965 et 1970.
Auguste Mouliéras, Contes merveilleux de Kabylie, Aix-en-Provence, Ed. Edisud, 1999.
[8] ينظر: المرجع نفسه، ص 33.
[9] ينظر: فلاديمير بروب: مورفولوجيا الخرافة، ترجمة: إبراهيم الخطيب، الشّركة المغربيّة للنّاشرين المتّحدين، الرّباط، المغرب، ط1، 1407هـ – 1986م، ص 17.
[10] ينظر: المرجع نفسه، ص 37 – 69.
[11] حكايات تُروى بالقبائليّة، وهي لهجة من لهجات اللّغة الأمازيغية. ويُطلق بمنطقة بحثنا على الحكاية العجيبة غالبا “ثَمَاشاَهُوتسْ” وأحيانا “ثَمْعَيْثْ”، و”ثَحَجِيتسْ”. وتعرّفها الرّاويات الحافظات أحداثها والمدركات لها أنّها تاريخ الأولين. قالت لنا إحدى الراويات المسنّات (ك. تسعديت في 3/6/1989 بـدائرة “آث واسيف”): « ثِمُشُهَا يَكِ نَاثْ ِزيگْ، زيگْ، زيگْ، زيگْ، اضْرَنْتْ أَسْمِ ايْهَدَّرْ كُلْشِ لَضْيُورْ، لَوْحُوشْ …» أي «هذه حكايات القدماء، القدماء، القدماء، القدماء، حدثت حين كان كلّ شيء يتكلّم، الطيور، الوحوش…»، إنّه التّاريخ الّذي لم يدون إلاّ على صفحات الذاكرات الشعبيّة، بل النّسويّة بصفة أدقّ. حكايات طويلة عن الملوك والغيلان، محتفظة برواسب المقدسّات الغابرة، ترويها النساء للأطفال والنساء، في ليالي الشتاء، أمام الموقد. وتُحرم روايتها نهارا خوفا من الإصابة بلعنة الإعاقة، الجنون، الصمم، البكم، العمى، والصلع.
[12] ينظر: ابن منظور: لسان العرب، المجلّد الأوّل، باب الحاء، منشورات مؤسسة الأعلمي، بيروت، لبنان، 1426هـ- 2005م، ص 902.
[13] ينظر ابن منظور: لسان العرب، المجلّد الأوّل، باب الحاء، منشورات مؤسسة الأعلمي، بيروت، لبنان، 1426هـ -2005م، ص 1008.
[14] الفيروزابادي: القاموس المحيط، تحقيق يحي مراد، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، ط 1، 2008، ص 886.
[15] الفيروزابادي: القاموس المحيط، تحقيق يحي مراد، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، ط 1، 2008، ص 1221.
[16] الفيروزابادي: القاموس المحيط، تحقيق يحي مراد، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، ط 1، 2008، ص 1221.
[17] ونجد نوعا أخر من الأحزمة النسائيّة، يسمى “أَلْقَشْطَا”، وهو منتشر في نقاط من منطقة القبائلية الغربية السهلية أو ذات التلال المنخفضة بولاية بومرداس خاصّة.
[18] ينظر شكل هذا الحزام في الصورة رقم1-3، في نهاية هذا المقال.
[19] Camille Lacoste-Dujardin, Dictionnaire de la culture berbère en Kabylie, Paris, Ed. La Découverte, 2005, p. 84.
[20] ينظر شكل هذا الحزام في الصورة رقم 1 و2، في نهاية هذا المقال.
[21] ينظر شكل هذا الحزام في الصورة رقم 2، في نهاية هذا المقال.
[22] هذه الصيغة النهائيّة تذكر بقرى دائرة “ذراع الميزان”، وهي بالقبائلية: ” أس نلعيذ أنتش ثوفّيزين أنرنو سكسو ان تمزين “
[23] ينظر مفهوم وبنية “الحكاية العجيبة” مجليا وعالميا: طراحة زهية: فضاء النوع بين تنظيم الخيال وتنظيم الواقع، دراسة أنثروبولوجي للحكاية القبائليّة العجيبة، ميم للنشر، الجزائر، 2011، ص 25-27.
[24] ينظر الحزام “أسرو” في الصورة رقم 1 والصورة رقم 2، في نهاية هذا المقال، وفي الفيلم الإثنوغرافي رقم 2 و(1).
[25] ينظر الصورة رقم 5، في نهاية هذا المقال وفي الفيلم الإثنوغرافي رقم 2 و(1).
[26] ينظر الصورة رقم 6، في نهاية هذا المقال وفي الفيلم الإثنوغرافي رقم 2 و(1).
[27] تتفق هذه الحكاية كثيرًا مع التي دوّنها مولود امعمري تحت عنوان “زَلْڤُوم”، إلا أنّها تختلف عنها في كونها تذكر بعض الأحداث بتفاصيل أكثر، كفكرة تحوّل الفتاة إلى حمامة، هذه التي لم يذكرها معمري، وفكرة إصرار الأخ على الزواج من أخته في آخ الحكاية، إذ نجد معمري يذكر أنّ الأخ كان متزوجًا عندما قصدته أخته لتطمئن عليه وتشفيه.
Mouloud Mammeri, Tellem chaho! : contes berbères de Kabylie, Paris, Bordas, 1980, p. 9-33.
[28] روتها السيدة “لوكاس نادية”، مهندسة وأستاذة الرياضيات، بثانوية “أوسماعيل قاسي”، بلدية ودائرة الأربعاء ناث واسيف، ولاية تيزي وزو، يوم 20-11-1989، مساء، وأعادت روايتها سنة 1995 بالطريقة ذاتها، وبحوزتي روايات كثيرة مسجّلة من هذا النمط نفسه مع اختلافات بسيطة. وقد أعاد المغني القبائلي “عبد القادر مكسى” والمغني “علي مزيان” غناء مقاطع من هذه الحكاية.
[29] ينظر الصورة رقم 4 في نهاية المقال، والفيلم الإثنوغرافي رقم 2 و(1).
[30] أوفيد: مسخ الكائنات، نقله إلى العربيّة، ثروت عكاشة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط4، 1997، ص 233-237.
[31]– ينظر الشكل رقم 8، في نهاية المقال.
[32] عماد حاتم: أساطير اليونان، الدار العربية للكتاب، ليبيا، 1988، ص 241-243
[33] ينظر: عماد حاتم: أساطير اليونان، الدار العربية للكتاب، ليبيا، 1988، ص 261.
[34] Yves Bonnefoy (dir.), Dictionnaire des mythologies et des religions des sociétés traditionnelles et du monde antique, T. 2, Paris, Ed. Flammarion, 1981, p. 1397.